مجنونةٌ هي الانتخابات البلدية في لبنان. مجنونةٌ حدّ كسر كلّ قواعد التحالفات وخلط كل الأوراق وكسر نظمٍ وأعرافٍ جمّة، لا بل إقفال بعض البيوتات السياسية التي كانت تعتبر أن العائلات ستنصفها في وجه “التكتلات” السياسية. مجنونة هي معركة جونيه، القلعة المسيحية الشرق أوسطية. مجنونة بنتيجتها وأبعادها وتحالفاتها.
أشبه بلعبة شطرنج بدت معركة محافظة جبل لبنان على اتساع بقعتها والمؤشرات التي حملتها للمرحلة المقبلة ولعل أبرزها على الإطلاق توق اللبنانيين وتحديدًا الكتلة المسيحية الى الانتخاب، لا بل الى إثبات نفسها ووجودها ككتلةٍ وازنة في الشارع لا ينطلي عليها استضعافٌ أو تهميش. وفيما كان كثيرون يتلهّون بالقرى الصغيرة الأشبه بجنود اللعبة الصغار، كان كلا الملكين يحاولان الصمود في جونيه. شقّ الفجر وتبدّلت معادلة منتصف الليل وخرج العونيون ظافرين بمعونةٍ والتزام كتائبيَّين. ظفر ذيّلته تساؤلاتٌ ثلاثة قد تحمل إجاباتها الخطوط العريضة للآفاق الرئاسية البعيدة والنيابية القريبة: هل كرّس العماد ميشال عون زعامته في معقله المسيحي كسروان بهذا الفوز الخجول؟ هل حمل فوزه رسالة واضحة الى القواتيين عنوانها العريض: تفشلون حيثما نطلّق وتنجحون حيثما نتعاضد، وبالتالي إما التفاهم الكلي وإما الطلاق؟ وأخيرًا، هل يفتح دعم الكتائب غير المباشر تكريسَ زعامة عون في قلب كسروان الأبوابَ لتفاهمٍ ثنائي مسيحي جديد أو ربما ثلاثي تُبنى عليه سيناريوهاتٌ رئاسية ونيابية جوهرية؟
لو لم ينزل عون...
لم يكن متوقّعًا من الحدث أن تخذل عون رغم أنها صُوِّرت على أنها “أمّ معارك بعبدا”. لم يكن الأمر كذلك بعدما أعادت المنطقة تجديد ولائها للرابية، ومثلها فعلت دير القمر في تحالفٍ عوني-قواتي متين أفلح في “تحجيم” آل شمعون والبستاني بسلبهم ضعف عدد الأعضاء. هنا بدت الصورة وردية رغم أن انتخابات الحدث شقّت صفي التيار والقوات شأنها شأن جونيه التي كانت ملتهبة والتي ما توقّع أحدٌ قبل “نزول عون عالأرض” أن يكون الفارق لصالح إحدى اللائحتين هزيلاً لهذه الدرجة. خاض جعجع معركته ضدّ عون من دون أن يصوّرها على أنها معركة أو خصومة احترامًا للتفاهم المذيَّل بتوقيعيهما وعهدهما بالبقاء معًا. خُرِق عون، ومع ذلك أثبت أنه ما زال ممسكًا بشارعه الذي شدّ عصبه شخصيًا قبل ساعاتٍ من حلول الموعد الانتخابي. حصّن عون معقله الكسرواني رغم الخرق ليوجّه بذلك رسائل جمّة وأبرزها تلك التي يعزف فيها على وتر الرئاسة ولا يعزف عنها. أراد عون أن يقول حسب كواليسه عبارة واحدة من كلمتين: ما زلت هنا. لا بل أبعد من ذلك، أرادها معركة رغم المغامرة بالانكسار في معقله كي يُثبت لنفسه ولقاعدته ولأبناء تياره المنقسمين على أنفسهم في مناطق جمة أنه ما زال الرقم الأصعب، كما ولخصومه وحلفائه بأنه لا يطالب بالرئاسة الأولى عبثًا بل لأنه الأكثر تمثيلاً في أوساط المسيحيين حتى لو كان وحيدًا في وجه أربع عائلات من أعرق العائلات الكسروانية وحزب مسيحي منافس ما هو سوى حليف النوايا الوازن.
تخبُّط برتقالي
ما أراد عون أن يقوله في السياسة وصل تمامًا الى من له أذنان سامعتان، لكن ما لم يغفله الرجل عمدًا فيما حاول آخرون إشاحة النظر عنه هو التخبُّط الذي يعيشه تيارُه في مناطق متشعّبة والذي أثّر عليه بلديًا من جهة، وقد يؤثر عليه في الاستحقاقات الوطنية المقبلة. ففي الأشرفية كانت صورة الشقاق واضحة، وفي بعبدا كانت جلية محاولة النائب آلان عون قطف النجاح لصالحه والضرب على لعبة الأوزان، ومثله فعل النائب نبيل نقولا الذي تحدّث عن تجاهله في عقر داره من قبل هيئة القضاء فدعم اللائحة المنافسة، وفي جزين لا تبدو الأجواء حتى الساعة باردةً في انتظار عودة آل الحلو عن قرارهم بتأليف لائحة مواجهة للائحة التيار الرئيسية المدعومة من القوات. ورغم كلّ محاولات الرابية التخفيفية خوفًا على الصفوف الداخلية التي عجز الرئيس الشاب عن ضبطها، يبدو أن الوضع بات يحتاج الى تدخّل عون الساهر على تياره شخصيًا لإعادة لملمة الصفوف وإخراس النشاز الذي يُضعفه صورةً لا تمثيلاً ويقدّم من الذرائع والتسويغات تحت عنوان “الديمقراطية داخل الحزب الواحد” ما لا يدخل عقل عاقل.
استحقاق ثالث
يبقى أمام الرابية استحقاق ثالثٌ وأخير ما هو إلا جزين التي في حال بايعته زعيمها نيابيًا وبلدياً لولاية ثانية على التوالي يكون قد حفظ معاقله الثلاثة الأقوى (كسروان-الحدث-جزين) ورسّخ زعامته المسيحية ومهّد الطريق لانتخاباتٍ نيابية مرعبة لحلفائه كما لخصومه وعشاق تقزيمه وتسخيف حيثيّاته في الشارع المسيحي. ولعلّ المرحلة المقبلة ستحمل من الرابية كثيرًا من الإلحاح على إجراء الانتخابات النيابية في موعدها حتى بالقانون القديم بعدما سقطت كلّ ذرائع عدم إجرائها في أعقاب تنظيم انتخابات بلدية واختيارية ناجحة حتى اليوم في جولتيها الأوليَين.
علامة كافية؟
بعيدًا من جزين التي تقترع الأحد المقبل والتي تختبر هي الأخرى جدوى التحالف العوني- القواتي الذي يؤمن كثيرون بأن انتخابات جبل لبنان زعزعته بسبب خساراتٍ في بقعٍ عدة بغض النظر عن بعض القرى والبلدات الصغيرة، كيف خرج القواتيون من هذه الانتخابات؟ كما خرج العونيون خرجوا هم، ظافرين بثنائيتهم في قرى عدّة، رابحين رغم الانشقاق عن التفاهم في مواقع قليلة، منكسرين بثنائيتهم في قرى أخرى، وأخيرًا خاسرين بلا العونيين في بقع جوهرية أهمها جونيه. قد تكون دير القمر بمثابة جائزة ترضية وعلامة كافية على نجاح التحالف العوني-القواتي بيد أنها قد تبدو غير مرضية أمام فشل القواتيين المدوّي في الحدث بعد دعمهم اللائحة المواجهة للائحة التيار، وكذا الأمر في جونيه وبسكنتا، مقابل سقوط التيار في مناطق عدة لم يحظَ بدعم معراب فيها. وفي هذا المجال، يدحض الطرفان إمكانية أن تؤثر مثل هذه التفاصيل “العائلية” أكثر منها السياسية على مسيرتهما الحُبيّة معًا أو على نواياهما التي ستبقى صافية لا بل ستشتدّ قوتُها في استحقاقاتٍ لا يكون للعائلات فيها دورٌ مع التسليم بأن هذا الدور بالتحديد “يكسر الظهر” ومعه يكسر “قدسيّة” العهد الذي قطعاه على نفسيهما بالسير معًا. أما وقد فشلا في تحقيق ذلك فالتسويغة حاضرة: حيث لا نتفق لا نختلف.
“واقفون مع الواقف”
وحدهم الكتائبيون أجادوا دوزنتها بشكل صارم. قد تجوز بهم مقولة “واقفون مع الواقف”، وذلك بعدما أفلحوا عن قصدٍ لا عن حظٍّ في تحديد “تشكيلة” من الخيارات الاستراتيجية المفصّلة لكلّ منطقة على حدة. فحيثما شعروا بالفوز المحسوم دعموا الفائز حتى لو كان من خارج دائرتهم الاستعطافية، وحيثما شعروا بطعم الخسارة نؤوا بأنفسهم أو دعموا اللائحة المواجهة لو اضطر بهم الأمر الى التحالف مع القومي السوري. ففي سنّ الفيل خاضوا المعركة استراتيجيًا، وفي دير القمر فعلوا الأمر عينه، وفي الحدث ما توانوا عن ذلك، أما في جونيه فكان قرارهم الأكثر جرأة بدعم التيار الوطني الحرّ رغم تكتلّ كلّ العائلات والقواتيين ضدّه. لم يفهم أحد المعيار الذي بنوا عليه خيارهم سوى أنهم لم يتفقوا ببساطةٍ مع اللائحة المقابلة على مستوى حصّتهم فهرعوا الى لائحة يقودها خصمهم السياسي عون. في النتيجة، أجاد الكتائبيون زجّ أنفسهم حيثما وجدوا أن النصر حليفهم المؤكد، هي استراتيجية استثنت جونيه فقط على أن يشكّل ذاك الاستثناء بداية تفاهمٍ مسيحي ثنائي جديد بين الرابية وبكفيا. وفي هذا المجال، لا يوصد أيٌّ من الطرفين أبوابَه في وجه مثل هذا التقارب على ما علمت “البلد” لا بل قد يتمّ توظيفه في مرحلةٍ لاحقة في إطار اتفاق ماروني ثلاثي له تبعاتُه الإيجابية في الشأن الرئاسي أولاً وقانون الانتخاب النيابي ثانيًا. وهذا السيناريو الذي مهّدت له معركتا جونيه ودير القمر وتحديدًا الأولى ليس بعيدًا أو سورياليًا، خصوصًا أن فارق الأصوات الضئيل الذي فازت به لائحة “كرامة جونيه” المدعومة من التيار أظهرت أن يدي الكتائب والأحرار ساهمتا إيجابًا في فوز اللائحة. ذاك السيناريو لا يبدو أنه ينطبق على التيار والأحرار خصوصًا بعد واقعة دير القمر والخصومة التاريخية الحادة بين ميشال عون ودوري شمعون.
تشريع أبواب بعبدا
هكذا إذًا، شرّعت جونيه أبواب بعبدا رغم المسافات الكبيرة بينهما. انتعش الحلم في الرابية وعادت الحسابات الى دورٍ ظنّت أنها بسلخ العمق الكسرواني عن العباءة البرتقالية إنما تقفل الطريق الرئاسية على مرتديها أو أحد المقربين منه من مستحقيها (شامل روكز). طوى جبل لبنان صفحته على انتصاراتٍ وهزائم من دون أن يحمل مفاجآتٍ جمة أو انكساراتٍ حادة سوى في دير القمر... العينُ اليوم على الجنوب وتحديدًا على جزين، المعقل العوني الثالث والذي معه يختبر العونيون والقواتيون مجددًا متانة حلفهما من هشاشته.